كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجيب: بأنه أنثها تحقيرًا لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث وهي اللات والعزى ومناة قال الله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى}.
وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل يا قوم} أي: الذين أرجوهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولون {اعملوا على مكانتكم} أي: على حالتكم فيه تهديد أي: أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، وقرأ شعبة بألف بعد النون جمعًا والباقون بغير ألف إفرادًا {إني عامل} أي: في تقرير ديني {فسوف تعلمون} أي: بوعد لا خلف فيه.
{من يأتيه} منا ومنكم بسبب أعماله {عذاب يخزيه} فإن خزي أعدائه دليل عليه وقد أخذهم الله تعالى يوم بدر {ويحل} أي: ينزل {عليه عذاب مقيم} أي: دائم وهو عذاب النار.
تنبيه:
المكانة بمعنى المكان فاستعيرت من العين للمعنى كما استعير لفظ هنا وحيث للزمان وهما للمكان، فإن قيل: حق الكلام إني عامل على مكانتي فلم حذف؟
أجيب: بأنه حذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حاله لا تقف وتزداد كل يوم قوة وشدة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فسوف تعلمون} توعدهم بكونه منصورًا عليهم غالبًا عليهم في الدنيا والآخرة.
ولما بين تعالى في هذه الآيات فساد مذاهبهم أي: المشركين تارة بالدلائل وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد، وكان صلى الله عليه وسلم يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} وقال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إنا أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة التامة {عليك} يا أشرف الخلق {الكتاب} أي: الكامل الشرف {للناس} أي: لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقرونًا {بالحق} أي: بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله {فمن اهتدى} أي: طاوع الهادي {فلنفسه} أي: فنفعه يعود إلى نفسه {ومن ضل} أي: وقع في الضلال بمخالفته {فإنما يضل عليها} أي: فضرر ضلاله يعود إليه.
ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى: {وما أنت عليهم بوكيل} أي: لست مأمورًا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب.
ولما بين سبحانه أن الهداية والضلال بتقديره قال تعالى: {الله} أي: الذي له مجامع الكمال وليس لشائبة النقص إليه سبيل {يتوفى الأنفس} أي: الأرواح {حين موتها} أي: موت أجسادها وتوفيها إماتتها وهي أن تسلب ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وقوله تعالى: {والتي لم تمت في منامها} عطف على الأنفس أي: يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى أيضًا الأنفس التي لم تمت في منامها ففي منامها ظرف ليتوفى أي: يتوفاها حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} حتى لا تميزوا ولا تتصرفوا كما أن الموتى كذلك فالتي تتوفى عند النوم هي الأنفس التي يكون بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان:
إحداهما: نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت ويزول بزوالها النفس والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس {فيمسك التي قضى عليها الموت} فلا يردها إلى جسدها، وقرأ حمزة والكسائي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء بعد الضاد ورفع التاء من {الموت} والباقون بفتح القاف والضاد وسكون الياء بعد الضاد ونصب {الموت} {ويرسل الأخرى} أي: يردها إلى جسدها وهي التي لم يقض عليها الموت {إلى أجل مسمى} أي: إلى الوقت الذي ضربه لموتها، وقيل: يتوفى الأنفس أي: يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز، قالوا: والتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ولأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس: التي بها العقل والتمييز، والروح: التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. قال الزمخشري: والصحيح ما ذكر أولًا لأن الله تعالى علق التوفي والموت والمنام جميعًا بالأنفس وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام انتهى.
ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال: يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا نبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت العود إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مدة حياتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين».
{إن في ذلك} أي: التوفي والإمساك والإرسال {لآيات} أي: دلالات على كمال قدرته وحكمته ورحمته. وقال مقاتل: لعلامات {لقوم يتفكرون} أي: فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، فإن قيل: قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس} يدل على أن المتوفي هو الله تعالى ويؤيده قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة}.
وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {ربي الذي يحيي ويميت} وقال تعالى في آية أخرى {إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا} فكيف الجمع؟
أجيب: بأن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقية، وفي آية إلى ملك الموت لأنه الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى: أتباعه ثم إن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالًا فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله تعالى من المقربين فنحن نعبدها لتشفع لنا أولئك المقربون عند الله تعالى فأجاب الله سبحانه عنه بقوله تعالى: {أم اتخذوا} أي: كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندهم {من دون الله} أي: الذي لا مكافئ له ولا مداني {شفعاء} أي: تشفع لهم عند الله تعالى.
تنبيه:
أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء البعداء {أولو} أي: أيشفعون ولو {كانوا لا يملكون شيئًا} أي: من الشفاعة وغيرها {ولا يعقلون} أي: أنكم تعبدونهم ولا غير ذلك وجواب لو محذوف تقديره ولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
{قل} أي: لهم {لله} أي: الذي له كمال القدرة والعظمة {الشفاعة جميعًا} أي: هو مختص بها فلا يشفع أحد إلا بإذنه ثم قرر ذلك فقال: {له ملك السموات والأرض} أي: فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم دون إذنه ورضاه {ثم إليه ترجعون} أي: يوم القيامة فيكون الملك له أيضًا حينئذ ثم ذكر تعالى نوعًا آخر من أعمال المشركين القبيحة بقوله تعالى: {وإذا ذكر الله} أي: الذي لا إله غيره {وحده} أي: دون آلهتهم {اشمأزت} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: يعني انقبضت، وقال قتادة: استكبرت وأصل الاشمئزاز والنفور والاستكبار أي: نفرت واستكبرت {قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يؤمنون بالبعث {وإذا ذكر الذين من دونه} أي: الأصنام {إذا هم يستبشرون} أي: يفرحون لفرط افتتانهم ونسيانهم حق الله تعالى ولقد بالغ في الأمرين حق الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورًا حتى تنبسط له بشرة وجهه والاشمئزاز أن يمتلئ غيظًا وهمًا حتى ينقبض أديم وجهه. قال مجاهد ومقاتل: وذلك حين: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم وألقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلا ففرح به المشركون وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الحج.
تنبيه:
قال الزمخشري: فإن قلت ما العامل في إذا ذكر، قلت: العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار. قال أبو حيان: أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو هو أن الظرفين معمولان لفاجؤوا ثم قال: إذا الأولى تنتصب على الظرفية والثانية على المفعول به.
ولما حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال تعالى: {قل اللهم} أي: يا الله {فاطر السموات والأرض} أي: مبدعهما من العدم أي: ألتجئ إلى الله تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وعجزت في عنادهم وشدة شكيمتهم فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها {عالم الغيب والشهادة} وصف تعالى نفسه بكمال القدرة وكمال العلم {أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} أي: من أمر الدين وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام لما أخبر بقتل الحسين وسخط على قاتله وقالوا: الآن يتكلم فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا وقرأ الآية، وروي أنه قال على أثرها: أو قتل من كان يجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره ويضع فاه على فيه. وعن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته بالليل قالت: كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
ولما حكى الله تعالى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء.
أولها: قوله تعالى: {ولو أن للذين ظلموا} أنفسهم بالكفر {ما في الأرض جميعًا} أي: من الأموال {ومثله معه لا افتدوا} أي: اجتهدوا في طلب أن يفدوا أنفسهم {به من سوء العذاب يوم القيامة} وهذا وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص روى الشيخان عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا لو أن لك ما في الأرض من شيء لكنت تفتدي به فيقول: نعم فيقول الله: قد أردت منك وفي رواية سألتك أهون من هذا وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئًا» قوله: «أردت» أي: فعلت معك فعل الآمر المريد وهو معنى قوله في رواية «قد سألتك».
ثانيها: قوله تعالى: {وبدا لهم من الله} أي: الملك الأعظم {ما لم يكونوا يحتسبون} أي: ظهر لهم أنواع من العذاب لم تكن في حسابهم وفي هذا زيادة مبالغة هو نظير قوله تعالى في الوعد {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وقوله صلى الله عليه وسلم «في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». وقال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي: ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدلت لهم سيئات لأنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام ويظنونها حسنات فبدت لهم سيئات.
ثالثها قوله تعالى: {وبدا لهم} أي: ظهر ظهورًا تامًا {سيئات ما كسبوا} أي: مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله تعالى: {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} أي: يطلبون ويوجدون الهزء في العذاب ثم حكى الله تعالى عنهم طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة بقوله تعالى: {فإذا مس الإنسان} أي: الجنس {ضر} أي: فقر أو مرض أو غير ذلك {دعانا} أي: في دفع ذلك، فإن قيل: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟
أجيب: بأن السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة عن قوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت} على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره فقوله تعالى: {فإذا مس الإنسان} معطوف على قوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده} وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم هذا محصل كلام الزمخشري، واعترضه أبو حيان بأن أبا علي يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة ثم قال: والذي يظهر في الربط أنه لما قال: {ولو أن للذين ظلموا} الآية وكان ذلك إشعارًا بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم يوم القيامة العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله تعالى فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه كما قال تعالى: {ثم إذا خولناه} أي: أعطيناه {نعمة منا} أي: تفضلًا فإن التحويل يختص به {قال إنما أوتيته} أي: المنعم به {على علم} أي: على علم من الله تعالى إني له أهل. وقيل: إن كان ذلك سعادة في المال أو عافية في النفس يقول: إنما حصل ذلك بجده واجتهاده وإن كان صحة قال: إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني وإن حصل مال يقول: حصل بكسبي وهذا تناقض أيضًا لأنه لما كان عاجزًا محتاجًا أضاف الكل إلى الله تعالى، وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله تعالى وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح {بل هي فتنة} أي: بلية يبتلي بها العبد.
فإن قيل: كيف ذكر النعمة أولًا في قوله: {إنما أوتيته} ثم أنثها ثانيًا؟
أجيب: بأنه ذكر أولًا لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل: تقديره شيئًا من النعمة وأتت ثانيًا اعتبارًا بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثًا أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل: هي أي: الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي {ولكن أكثرهم} أي: أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام {لا يعلمون} أن التخويل استدراج وامتحان.
{قد قالها} أي: القولة المذكورة وهي قوله: {إنما أوتيته على علم} لأنها كلمة أو جملة من القول {الذين من قبلهم} أي: من الأمم الماضية. قال الزمخشري: هم قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي، وقومه راضون به فكأنهم قالوها. قال: ويجوز أن يكون في الأمم الماضية آخرون قائلون مثلها {فما أغنى عنهم} أي: أولئك الماضين {ما كانوا يكسبون} أي: من متاع الدنيا ويجمعون منه.
{فأصابهم سيئات ما كسبوا} أي: جزاؤها من العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى: {والذين ظلموا} أي: بالعتو {من هؤلاء} أي: من مشركي قومك ومن للبيان أو للتبعيض {سيصيبهم سيئات ما كسبوا} أي: كما أصاب أولئك {وما هم بمعجزين} أي: فائتين عذابنا فقتل صناديدهم يوم بدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين فقيل لهم: {أولم يعلموا أن الله} أي: الذي له الجلال والكمال {يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحانًا {ويقدر} أي: يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قويًا شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلابد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضًا لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضًا من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضًا في تلك الساعة عالم من النبات.
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} قال الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشتري ** ولا النحس يقضي علينا زحل

ولكنه حكم رب السماء ** وقاضي القضاة تعالى وجل

{إن في ذلك} أي: البيان الظاهر {لآيات} أي: دلالات {لقوم يؤمنون} أي: بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.